يُقَدِّمُ الكِتابُ تَحقيقًا لمخطوطَةِ "شَرح مَواقِفِ النِّفَّري" لـ "عفيف الدِّين التِّلمساني"، وتَتمَثَّلُ أَهمِّيَّةُ هَذا الشَّرحِ في جانِبَيْن، الأَوَّلِ: فَهْمُ عِبارَةِ النِّفَّريِّ الشَّديدَةِ الرَّمزيَّةِ والتَّكثيفِ، فَمَعَ النِّفَّري يَتَّخِذُ فِعلُ الكِتابَةِ بُعدًا ما وَرائِيًّا، ويَتَحوَّلُ إلى كِتابَةِ قَصيدًةٍ تُؤَسِّسُ بِقَدرِ ما تَمحُو، وتَرمُزُ بِقَدرِ ما تَكشِفُ اللُّغَةُ. والثَّاني: الكَشفُ عَن مَذهَبِ التِّلمِسانيِّ الصُّوفيِّ، الَّذي لَم يَحْظَ بِدِراسَةٍ مُستَقِلَّةٍ حتَّى الآن. ويَعتَمِدُ التَّحقيقُ بِشَكلٍ أَساسيٍّ عَلى مَخطوطَةِ "كوبرلي" باسطنبول، الَّتي يَرجِعُ تاريخُها إلى 695 هـ، أَيْ بَعدَ وَفاةِ التِّلمساني بِخَمسِ سَنواتٍ، وبالتَّالي فَهِي مَخطوطَةٌ لا تُصابُ لها قِيمَةٌ. وفَضلًا عَن قِدَمِها هذا فَإِنَّ العِنايَةَ تَتجلَّى فيها في كُلِّ مَوضِعٍ، وتَشمَلُ حُسنَ الخَطِّ، ووَضْعَ النَّقْط، وتَشكيلَ الحُروف.
"وإِذا ضِقْتُ ذَرْعًا بِدَوَاعي نَفْسِكَ فَاسْكُنْ إِلَى زَوْجَتِكَ، فَإِنْ ضِقْتَ ذَرْعًا فَإِلى أَهْلِ عِلْمِكَ، فَإِنْ ضِقْتَ فَإِلَى أَهْلِ مَعْرِفَتِكَ، فَإِنْ ضِقْتَ فَسِرْ في الأَرْضِ، فَإِنْ ضِقْتَ فَالْزَمْ بَابِي، فَإِنْ ضِقْتَ فِيهِ فَاصْبِرْ، فَإِنْ ضِقْتَ فِيهِ فَاصْبِرْ، وَيَنْفَتِحْ لَكَ نُورُهُ، وَلَا يُخْرَجُ عَنْهُ عَلَى ضِيقٍ، وَصَابِرْ عَلَيْهِ وَانْتَظِرْ"... والمَيْلُ إلى الوحدَةِ لا يَجعَلُ له تلاميذَ يَحمِلونَ أَفكارَهُ، ودَوَامُ الارتحالِ يُؤَدِّي إلى جَهلِ النَّاسِ بِهِ، وعَدَمِ التَّعَرُّفِ عليه، كما أنَّنا يُمكِنُ أن نَعتبِرَ أُسلوبَهُ شَدِيدَ الرَّمْزِيَّةِ؛ وَالَّذِي يُصَعِّبُ على كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ فَهْمُهُ وَإِدْرَاكُ مَرَاميهِ: أَحَدُ الأَسبابِ أَنَّه لَم يَأخُذْ حَقَّه في الذُّيوعِ والانتِشارِ. والمُحَصِّلَةُ أَنَّ ما نَعرِفَه عَن حياةِ النِّفَّري قَليلٌ؛ فَكانَ جَوَّالًا زاهِدًا. وتُوفِّيَ بِأرضِ مِصرَ سنةَ 354 هـ، وهذا التَّحديدُ تُدَعِّمُهُ أَسانيدُ كَثيرَةٌ تُظهِرُها الدِّراسَةُ الَّتي بَينَ يَدَيْكَ.